الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***
وهي جمع شراب، وهو كل مائع رقيق يشرب ولا يتأتى فيه المضغ محرما كان أو حلالا، وهي تستخرج من العنب والزبيب والتمر والحبوب، ومنها حرام ومنها حلال، ف (المحرم منها الخمر، وهي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد) وعندهما لا يشترط القذف بالزبد لأنه يسمى خمرا بدونه، ولأن المؤثر في فساد العقل وتغطيته هو الاشتداد. ولأبي حنيفة أن السكون أصل في العصير، وما بقي شيء من آثاره فالحكم له، وأحكام الشرع قطعية فلا يحكم بكونه خمرا مع وجود شيء من آثار العصير للمغايرة بينهما، ولأن الثابت لا يزول إلا بيقين، فما بقي شيء من آثار العصير لا يتيقن بالخمرية. وأما حرمتها فبالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} [المائدة: 90] والرجس: الحرام لعينه. والسنة قوله صلى الله عليه وسلم: (حرمت الخمر لعينها) وقد تواتر تحريمها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه إجماع الأمة؛ ويتعلق بها أحكام أخر: منها أنه يكفر مستحلها لثبوت حرمتها بدليل مقطوع به، ومنها أن نجاستها مغلظة لثبوتها بالدليل القطعي، ومنها أنها لا قيمة لها في حق المسلم حتى لا يجوز بيعها ولا يضمن غاصبها ولا متلفها لأن ذلك دليل عزتها، وتحريمها دليل إهانتها. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها) ومنها حرمة الانتفاع بها لنجاستها، ولأن في الانتفاع بها تقريبها، والله تعالى يقول: ) فاجتنبوه} [المائدة: 90]، ومنها أنه يحد بشرب القليل منها على ما بينا في بابها، ومنها أن الطبخ لا يحلها، لأن الطبخ في العصير يمنع الحرمة ولا يرفعها. ومنها جواز تخليلها على ما يأتي إن شاء الله تعالى. (الثاني العصير إذا طبخ فذهب أقل من ثلثه وهو الطلاء) وقيل إذا ذهب ثلثه فهو الطلاء (وإن ذهب نصفه فالمنصف) وإن طبخ أدنى طبخة فالباذق والكل حرام إذا غلا واشتد وقذف بالزبد على الاختلاف لأنه رقيق لذيذ مطرب يجتمع الفسّاق عليه فيحرم شربه دفعا لما يتعلق به من الفساد. (الثالث السكر، وهو النيء من ماء الرطب إذا غلا كذلك) قال صلى الله عليه وسلم: (الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرم والنخلة) وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم. (الرابع نقيع الزبيب، وهو النيء من ماء الزبيب إذا غلا واشتد كذلك) على الخلاف حرام أيضا لما روينا وبينا (وحرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر) لأن حرمة الخمر قطعية على ما مرّ، وحرمة هذه اجتهادية (فيجوز بيعها وتضمن بالإتلاف) خلافا لهما لأنها حرام فلا يجوز بيعها كالخمر. وعن أبي يوسف: أنه يجوز بيعها وتضمن بالإتلاف إذا ذهب بالطبخ أكثر من ثلثه. ولأبي حنيفة أنه مال متقوّم، وما دل الدليل على سقوط تقوّمها بخلاف الخمر، ثم يجب بالإتلاف عنده القيمة دون المثل لأنه ممنوع من الانتفاع بها للحرمة (ولا يحد شاربها حتى يسكر ولا يكفر مستحلها) لما بينا. وعن أبي يوسف: ما كان من الأشربة يبقى بعد ما بلغ: أي اشتد عشرة أيام لا يفسد، أي لا يحمض فإني أكرهه، لأن بقاءه هذه المدة دليل قوته وشدته فكان آية حرمته، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة. قال: (ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخة حلال، وإن اشتد إذا شرب ما لم يسكر من غير لهو) ولا طرب (و) كذلك (عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه حلال، وإن اشتد إذا قصد به التقوي، وإن قصد التلهي فحرام) وقال محمد: حرام، وعنه مثل قولهما، وعنه التوقف فيه. له قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) وقوله: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وقياسا على الخمر. لهما قوله عليه الصلاة والسلام: (حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب) خص السكر من غير الخمر بالتحريم، فمن عمم بالتحريم السكر وغيره فقد خالف النص، وما رواه من الأحاديث طعن فيه يحيى بن معين، ذكره عبد الغني المقدسي في كتابه، ولأن عامة الصحابة رضي الله عنهم خالفوه، فدل على عدم صحته، أو هو محمول على الشرب المسكر والتلهي، أو نقول: المسكر هو القدح الأخير فنقول بالموجب، ولأن حرمة قليل الخمر يدعو إلى كثيره لرقته ولطافته فأعطي حكمه، وليس كذلك المثلث لأن قليله لا يدعو إلى كثيره وهو غذاء فلا يحرم. وروى الطحاوي بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بنبيذ فشمه فقطب وجهه لشدته، ثم دعا بماء فصبه عليه وشرب منه وقال: (إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متونها بالماء). وفي رواية أنه لما قطب قال رجل: أحرام هو؟ قال: (لا) وهذا نص في الباب. وعن ابن أبي ليلى قال: أشهد على البدريين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يشربون النبيذ في الجرار الخضر، وقد نقل ذلك عن أكثر الصحابة رضي الله عنهم ومشاهيرهم قولا وفعلا حتى قال أبو حنيفة: إنه مما يجب اعتقاد حله لئلا يؤدي إلى تفسيق الصحابة رضي الله عنهم؛ والمثلث إذا صب عليه الماء حتى رق ثم طبخ لا يتغير حكمه، لأن صب الماء يزيده ضعفا، بخلاف ما إذا صب الماء على العصير حتى ذهب ثلثا الجميع، لأن الماء يذهب أولا للطافته أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي العصير. قال: (ونبيذ العسل والتين والحنطة والشعير والذرة حلال طبخ أو لا) إذا لم يشرب للهو والطرب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الخمر من هاتين الشجرتين) والمراد بيان الحكم، ولأن قليله لا يدعو إلى كثيره. وعن محمد أنه حرام، ويقع طلاق السكران منه كغيره من الأشربة المحرمة، وجوابه ما مر (وفي حد السكران منه روايتان) والأصح أنه يحد، لأن في بعض البلاد يجتمع الفساق عليه اجتماعهم على الخمر وفوقه، وعلى هذا المتخذ من الألبان؛ ثم قيل: يجب أن لا يحل لبن الرماك عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمها، إذ هو متولد منه، وجوابه أن كراهة اللحم لاحترامه، أو لما في إباحته من تقليل آلة الجهاد فلا يتعدى إلى لبنه. قال: (ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به) لأنه من أجزاء الخمر، ولا يحد شاربه ما لم يسكر لأنه ناقص، إذ الطباع السليمة تكرهه وتنبو عنه، وقليله لا يدعو إلى كثيره فصار كغير الخمر. قال: (ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير) لقوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير، ألا فانتبذوا فيها واشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر). قال: (وخل الخمر حلال سواء تخللت أو خللت) لقوله صلى الله عليه وسلم: (نعم الإدام الخل) مطلقا، وقال صلى الله عليه وسلم: (خير خلكم خل خمركم) ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد ويثبت وصف الصلاحية لأن فيه مصلحة قمع الصفراء والتغذي ومصالح كثيرة، وإذا زال المفسد الموجب للحرمة حلت كما إذا تخللت بنفسها، وإذا تخللت طهر الإناء أيضا، لأن جميع ما فيه من أجزاء الجمر يتخلل إلا ما كان منه خاليا عن الخل فقيل يطهر تبعا، وقيل يغسل بالخل ليطهر لأنه يتخلل من ساعته، وكذا لو صب منه الخل، فما خلا طهر من ساعته؛ ومن خاف على نفسه الهلاك من العطش ولم يجد إلا خمرا فله أن يشرب منها ما يأمن به من الموت ثم يكف، لأن الله تعالى أباح للمضطر أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، والخمر مثلها في التحريم فتكون مثلها في الإباحة عند الاضطرار، فإذا أمن على نفسه زالت الضرورة وهو خوف الهلاك عاد التحريم، وإذا وجدت الخمر في دار إنسان وعليها قوم جلسوا مجالس من يشربها ولم يرهم أحد يشربونها عزروا، لأنهم ارتكبوا أمرا محظورا وجلسوا مجلسا منكرا، وكذلك من وجد معه آنية خمر عزر لأنه ارتكب محظورا.
(وهي) في اللغة: أخذ الشيء على سبيل الخفية والاستسرار بغير إذن المالك، سواء كان المأخوذ مالا أو غير مال، ومنه استراقّ السمع، قال الله تعالى: {إلا من استرق السمع فأتبعه} [الحجر: 18] وسرقة الشاعر المعنى وسرقة الصنعة ونحوه. وفي الشرع (أخذ العاقل البالغ نصابا محرزا، أو ما قيمته نصابا ملكا للغير لا شبهة له فيه على وجه الخفية) والمعنى اللغوي مراعى فيه ابتداء وانتهاء، أو ابتداء في بعض الصور كما إذا نقب البيت خفية وأخذ المال مكابرة وذلك يكون ليلا، لأنه ربما أحسوا به فكابر وأخذ ولا غوث بالليل فيقطع؛ أما النهار لو فعل ذلك لا يقطع لأنه يلحقهم الغوث فلا يمكنه ذلك، فيشترط الخفية ليلا ونهارا فهي مسارقة عين المالك أو من يقوم مقامه؛ وفي قطع الطريق وهي السرقة الكبرى مسارقة عين الإمام وأعوانه لأنه المتصدي لحفظ الطريق بأعوانه، لأن الأموال إنما تصير مصونة محرزة بحفظ الإمام وحمايته. والأصل في وجوب القطع قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: فاقطعوا أيمانهما، وقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} [المائدة: 64] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من سرق قطعناه) ورفع إليه صلى الله عليه وسلم سارق فقطعه. وإجماع الأمة على وجوب القطع وإن اختلفوا في مقدار النصاب، ولأن المال محبوب إلى النفوس تميل إليه الطباع البشرية خصوصا عند الحاجة والضرورة، ومن الناس من لا يردعه عقل، ولا يمنعه نقل، ولا تزجرهم الديانة، ولا تردهم المروءة والأمانة، فلولا الزواجر الشرعية من القطع والصلب ونحوهما لبادروا إلى أخذ الأموال مكابرة على وجه المجاهرة، أو خفية على وجه الاستسرار، وفيه من الفساد ما لا يخفى، فناسب شروع هذه الزواجر في حق المستسر والمكابر في سرقتي الصغرى والكبرى حسما لباب الفساد وإصلاحا لأحوال العباد، والعبد والحر في القطع سواء لإطلاق النصوص، ولأن القطع لا يتنصف فيكمل في العبد صيانة لأموال الناس؛ ولا بد من العقل والبلوغ لأن القطع شرع زاجرا عن الجناية، ولا جناية من الصبي والمجنون. وأما اشتراط النصاب فلما روي أن اليد كانت لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجنّ. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه، ولأنه لا بد من اعتبار مال له خطر لتتحقق الرغبة فيه فيجب الزجر عنه؛ أما الحقير لا تتحقق الرغبة فيه فلا حاجة إلى الزجر عنه، ولا بد أن يكون محرزا لأنه عليه الصلاة والسلام لم يوجب القطع في حريسة الجبل. أي ما يحرس بالجبل لعدم الحرز؛ ولا بد أن يكون غير مأذون له بالدخول فيها، لأن بالإذن يخرج من أن يكون حرزا في حقه؛ ويشترط أن يكون ملكا للغير لا شبهة له فيه، لأن الحدود تدرأ بالشبهات على ما مرّ، وتكون على سبيل الخفية لأن السرقة لا تكون على الجهر على ما مرّ. قال: (والنصاب دينار أو عشرة دراهم مضروبة من النقرة) لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في أقل من عشرة دراهم) وما روي أن القطع كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا في ثمن المجن، فقد نقل عن ابن عباس وابن أم أيمن قالا: كانت قيمة المجن الذي قطع فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم، ونقل أقل من عشرة دراهم؛ والأخذ بالأكثر أولى احتيالا للدرء، وفي الأقل شبهة عدم الجناية. وروي عن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يقطع في عشرة دراهم تبر ما لم تكن مضروبة. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر قيمته بنقد البلد. وروى الحسن عنه: إذا سرق عشرة دراهم مما يروج بين الناس قطع، فعلى هذا إذا كان التبر رائجا بين الناس قطع. وروى الحسن عنه أيضا: لو سرق أحد عشر درهما لا تروج، فإن كانت تساوي عشرة رائجة قطع، وإلا فلا؛ وقوله أو ما قيمته عشرة دراهم، دليل على أن غير الدراهم تعتبر قيمته بالدراهم وإن كان ذهبا. وروى بشر عن محمد: لو سرق نصف دينار قيمته عشرة دراهم، قطعته، وإن سرق دينارا قيمته أقل من عشرة دراهم لا أقطعه، ثم حرز كل شيء على حسب ما يليق به. قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا آواه الجرين يعني البيدر ففيه القطع)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في حريسة الجبل، وما آواه المراح ففيه القطع) أي موضع يروحون منه. قال: (والحرز يكون بالحافظ وبالمكان) لأن الحرز ما يصير به المال محرزا عن أيدي اللصوص وذلك بما ذكرنا، فالحافظ كمن جلس في الصحراء أو في المسجد أو في الطريق وعنده متاعه فهو محرز به، وسواء كان نائما أو مستيقظا؛ أما إذا كان مستيقظا فظاهر؛ وأما إذا كان نائما فلما روي (أنه عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد) وسواء كان المتاع تحته أو عنده، لأنه يعد حافظا له في ذلك كله عرفا؛ والحرز بالمكان هو ما أعد للحفظ (كالدور والبيوت والحانوت) والصندوق ونحوه (ولا يعتبر فيه الحافظ) لأنه محرز بدونه، وهو المكان الذي أعد للحفظ، إلا أن القطع لا يجب بالأخذ من الحرز بالمكان إلا بالإخراج منه، لأن يد المالك قائمة ما لم يخرجه، والمحرز بالحافظ يجب القطع كما أخذه، لأن يد المالك زالت بمجرد الأخذ فتمت السرقة. ولو كان باب الدار مفتوحا فدخل نهارا وأخذ متاعا لم يقطع، لأنه مكابرة وليس بسرقة لعدم الاستسرار على ما بينا؛ وإن دخل ليلا قطع لأنه حرز لأنه بنى للحرز؛ ولو دخل بين العشاء والعتمة والناس منتشرون فهو بمنزلة النهار؛ ولو علم صاحب الدار باللص واللص لا يعلم به أو بالعكس قطع لأنه مستخف؛ وإن علم كل واحد بالآخر لا يقطع لأنه مكابر. قال: (وإذا سرق من الحمام ليلا قطع، وبالنهار لا وإن كان صاحبه عنده) لأنه مأذون له بالدخول فيه نهارا فاختل الحرز، ويقطع ليلا لأنه بنى للحرز، وما اعتاد الناس من دخول الحمام بعض الليل فهو كالنهار لوجود الإذن، وعلى هذا كل حرز أذن بالدخول فيه كالخانات وحوانيت التجار والضيف ونحوهم. قال: (والمسجد والصحراء حرز بالحافظ) لأن الصحراء ليس بحرز، والمسجد ما بني للحفظ والإحراز، فلو سرق منه وصاحبه عنده يحفظه قطع لوجود السرقة، بخلاف الحمام والحرز الذي أذن بالدخول فيه حيث لا يقطع وإن كان صاحبه عنده، لأنه بنى الإحراز فلا يعتبر فيه الحافظ لما مر. قال: (والجوالق والفسطاط كالبيت) لأنه عمل للحفظ (فإن سرق الفسطاط والجوالق لا يقطع) لأنهما ليسا في حرز وإن كان حرزا لما فيهما (إلا أن يكون لهما حافظ) فيقطع لوجود الحرز، وقال أصحابنا: ما كان حرزا لنوع فهو حرز لجميع الأنواع حتى جعلوا شريجة البقال حرزا للجواهر لأنه يحرز خلفها الدراهم والدنانير (ولهذا قالوا: لا يقطع النباش) لأن القبر ليس بحرز لغير الكفن فلا يكون حرزا للكفن. قال: (وتثبت السرقة بما يثبت به القذف) يعني بالإقرار مرة وبشهادة شاهدين كسائر الحقوق وقد تقدم. وقال أبو يوسف: لا بد من إقراره مرتين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر فيها التثنية كالأخرى وهي البينة كما في الزنا وحد الشرب على هذا الخلاف. ولهما أن السرقة والشرب ثبت بالمرة الواحدة فلا حاجة إلى الأخرى كالقصاص، وحد القذف والتثنية في الشهادة منصوص عليه، ولأنه يفيد تقليل تهمة الكذب، ولا كذلك الإقرار لأنه لا تهمة فيه واشتراط الزيادة في الزنا على خلاف القياس فيقتصر على مورد النص؛ وينبغي أن يلقن المقر الرجوع احتيالا للدرء، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فقال له: (أسرقت؟ ما إخاله سرق) وإذا رجع عن الإقرار صح في القطع لأنه خالص حق الله تعالى ولا مكذّب له فيه، ولا يصح في المال لأن صاحبه يكذبه. قال: (ويسأل الشهود عن كيفيتها وزمانها ومكانها وماهيتها) لأنه يلتبس على كثير من الناس فيسأل عنه احتياطا في الحدود. قال: (ولا بد من حضور المسروق منه عند الإقرار والشهادة والقطع) حتى لا يقطع ما لم يصدقه، لأن حقه متعلق بالسرقة حتى لا يثبت بدون دعواه، ولاحتمال أن يهبه المسروق أو يملكه فيسقط القطع، فإذا حضر انتفى هذا الاحتمال. قال: (وإذا دخل جماعة الحرز وتولى بعضهم الأخذ قطعوا إن أصاب كل واحد نصاب) لوجود السرقة من كل واحد منهم، لأن الأخذ وجد من الكل معنى للمعاونة كما في قطع الطريق وصار كالردء والمعين، وإن كان أقل من نصاب لم يقطع، لأن القطع يجب على كل واحد بجنايته فيعتبر كمالها في حقه. قال: (وإن نقب فأدخل يده وأخرج المتاع، أو دخل فناول المتاع آخر من خارج لم يقطع) أما الأولى فلأنه لم يوجد الهتك على وجه الكمال وهو الدخول فصار فيه شبهة العدم فلا يجب الحد. وأما الثانية فلأن الداخل لم يخرج المتاع لاعتراض يد معتبرة عليه قبل إخراجه، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد منهما. وعن أبي يوسف: القطع في الأولى لأن المقصود من السرقة إخراج المال من الحرز وقد وجد، فصار كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي وأخرج الدراهم عنه؛ وفي المسألة الثانية إن أخرج الداخل يده وناولها الخارج قطع الداخل، وإن أدخل الخارج يده فتناولها من الداخل قطعا وهي بناء على الأولى. وجوابه أن كمال هتك حرمة الحرز بالدخول فيه وهو ممكن معتاد، ولم يوجد بخلاف الصندوق لأن الممكن فيه إدخال يده فيه دون دخوله. قال: (وإن ألقاه في الطريق ثم أخذه قطع) وقال زفر: لا يقطع: لأن الإلقاء لا يوجب القطع كما لو لم يأخذه، وبالأخذ من الطريق لا يقطع كما لو أخذه غيره. ولنا أنه لم يعترض عليه فعل آخر فاعتبر الكل فعلا واحدا، ولأن ذلك عادة اللصوص، لأنه يتعذر خروجهم بالمتاع فيفعلوا ذلك أو يفعلونه ليتفرغوا للدفع لو ظهر عليهم أو للهرب فكان من تمام السرقة، بخلاف ما إذا ألقاه ولم يأخذه لأنه مضيع لا سارق (و) كذلك (لو حمله على حمار وساقه قطع) لأن مشيه مضاف إليه، ولو خرج قبل الحمار ثم خرج الحمار بعده وجاء إلى منزله لم يقطع ولو علق على طائر له وتركه في المنزل فطار بعد ذلك إلى منزله لم يقطع لأنه مختار في ذلك؛ ولو طرح المتاع في نهر في الدار فذهب به الماء وأخرجه لا قطع عليه لأن الماء أخرجه بقوته حتى لو لم يكن له قوة وحركة هو حتى أخرجه قطع لأنه مضاف إلى فعله. قال: (وإن أدخل يده في صندوق الصيرفي أو كمّ غيره وأخذ قطع) لأنه حرز، أما الصندوق فحرز بنفسه على ما بينا، وأما الكم فحرز بالحافظ فيقطع.
(ولا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام: كالحطب والسمك والصيد والطير والنورة والزرنيخ ونحوها) لحديث عائشة رضي الله عنها (إن اليد كانت لا تقطع على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في الشيء التافه) وهو الحقير، وهو مباح في الأصل بصورته، حقير لقلة الرغبات فيه، ولهذا لا يجري فيه الشح والضنة، وما كان كذلك لا يؤخذ على كره من المالك عادة فلا حاجة إلى الزاجر كما قلنا فيما دون النصاب، وما فيه من الشركة العامة في الأصل يوجب الشبهة. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في الطير) ويعم جميع الطيور حتى الدجاج والبط، ويدخل في السمك الملح والطري. قال: (ولا ما يتسارع إليه الفساد: كالفواكه الرطبة واللبن واللحم) لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في الطعام) قالوا: معناه ما يتسارع إليه الفساد لأنه يقطع في الحبوب والسكر إجماعا. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في ثمر ولا كثر) قال محمد: الثمر ما كان على رؤوس النخل، والكثر: الجمار. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في الثمار) وما آواه الجرين ففيه القطع وهو موضع تجمع فيه الثمار إذا صرمت، والذي يجمع عادة هو اليابس. قال: (ولا ما يتأوّل فيه الإنكار: كالأشربة المطربة، وآلات اللهو والنرد والشطرنج، وصليب الذهب) لأنه يصدّق دعواه في تأويله الإنكار لأنه ظاهر حال المسلم، بل يجب عليه ذلك لأنه نهى عن المنكر. قال: (ولا في سرقة المصحف المحلى) وعن أبي يوسف أنه يقطع إذا بلغت الحلية نصابا لأنها ليست من المصحف فاعتبرت بانفرادها. ولنا أنه يتأول فيه القراءة، ولأن الإحراز لأجل المكتوب ولا مالية له وما وراءه تبع كالجلد والورق والحلية ولا عبرة بالتبع، والأصل أنه متى اجتمع ما يجب فيه القطع وما لا يجب لا يقطع كالشراب وماء الورد في إناء ذهب أو فضة، لأنه اجتمع دليلا القطع وعدمه فأورث شبهة، حتى لو شرب ما في الإناء في الدار ثم أخرج الإناء من الدار فارغا قطع، لأن المقصود حينئذ هو الإناء، رواه هشام عن محمد (و) كذلك (الصبي الحر المحلي) وعن أبي يوسف: أنه يقطع لأن الحلي غيره فكان مقصودا. ولنا أن الحلي تبع له وهو ليس بمال، ولأنه يتأول في أخذه خوف الهلاك ورده على أهله، ولو كان قصده الحلي لأخذه دون الصبي؛ وكذا لو سرق كلبا عليه قلائد فضة لأنها تبع له ولا قطع في الأصل فكذا في التبع. قال: (ولا في سرقة العبد) صغيرا كان أو كبيرا عند أبي يوسف لأنه آدمي من وجه مال من وجه، وقالا: يقطع في العبد الصغير لأنه مال لكونه منتفعا به، أو بعرضية الانتفاع لأنه خداع أو غصب وليس سرقة، وإذا كان يعبر عن نفسه ويعقل فهو كالكبير. قال: (ولا في سرقة الزرع قبل حصاده والثمرة على الشجر) لعدم الحرز وللحديث المتقدم. قال: (ولا في كتب العلم) لأنه يتأول قراءتها، ولأن المقصود ما فيها وليس بمال، ويقطع في دفاتر الحساب لأن ما فيها غير مقصود، وإنما المقصود الكاغد؛ ولو سرق الجلد والكواغد قبل الكتابة قطع، وفي كتب الأدب روايتان. قال: (ويقطع في الساج والقنا والأبنوس والصندل والعود والياقوت والزبرجد والفصوص كلها) لأنها من أنفس الأموال وأعزها مرغوب فيها، ولا توجد مباحة في دار الإسلام لصورتها فصارت كالذهب والفضة. (و) يقطع في (الأواني المتخذة من الخشب) لأنها التحقت بالأموال النفيسة بالصنعة، ولا قطع في العاج ما لم يعمل، فإذا عمل منه شيء قطع فيه، ولا قطع في الزجاج لأن المكسور منه تافه، والمصنوع يتسارع إليه الفساد. وقيل يقطع في المصنوع لأنه مال نفيس لا يتسارع إليه الفساد. قال محمد: لو سرق جلود السباع المدبوغة وقيمتها مائة لا يقطع، ولو جعلت مصلاة أو بساطا قطع، لأنها خرجت من أن تكون جلود السباع لتغير اسمها ومعناها. قال: (ولا قطع على خائن، ولا نباش، ولا منتهب، ولا مختلس) قال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع على خائن ولا منتهب ولا مختلس) ولأن الحرز قاصر في حق الخائن لأن المال غير محرز عنه، والمنتهب والمختلس مجاهر فلا يكون سارقا. وسئل علي رضي الله عنه عن المختلس والمنتهب؟ فقال: تلك دعابة لا شيء فيها، ولأن اسم السارق لا يتناوله فلا يدخل تحت النص. وأما النباش فيقطع عند أبي يوسف لقوله عليه الصلاة والسلام: (من نبش قطعناه) ولأنه سرق مالا متقوّما من حرز مثله فيقطع. ولهما ما روى الزهري أن نباشا أخذ في زمن مروان بالمدينة والصحابة متوافرون يومئذ فأجمعوا أن لا قطع عليه، ولأن اسم السارق لا يتناوله، ألا ترى أن العرب أفردوا له اسما؟ والقطع وجب على السارق نصا؛ فلو أوجبناه عليه كان إلحاقا له به فيكون إيجاب الحدود بالقياس فلا يجوز، ولأنه ليس ملكا للميت لانقطاع ملكه عنه بالموت، ولا ملكا للورثة لعدم جواز تصرفهم فيه، فلم يكن له مالك معين فلا يقطع كمال بيت المال، وما رواه محمول على السياسة. وقيل هو موقوف وليس بمرفوع. قال: (ولا من سرق ذي رحم محرم، أو من سيده، أو من امرأة سيده، أو زوج سيدته، أو زوجته، أو مكاتبه، أو من بيت المال، أو من الغنيمة، أو من مال له فيه شركة) لوقوع الخلل في الحرز لوجود الإذن في الدخول في البعض وبسوطة في البعض في مال الآخر، ولأن له حقا في أكساب المكاتب وله نصيب في بيت المال والمغنم، وهو مروي عن علي رضي الله عنه، وكذا إذا سرق المكاتب من مولاه لا يقطع، ولا يقطع بالسرقة من غريمه مثل ماله عليه لأنه استوفى حقه، والحال والمؤجل سواء، لأن الحق ثابت والتأجيل لتأخير المطالبة، وكذا لو سرق أكثر من حقه لأنه يصير شريكا بمقدار حقه؛ وكذا إذا أخذ أجود من دراهمه أو أردأ، لأن الجنس متحد؛ ويقطع بسرقة خلاف جنس ما عليه، لأنه ليس له ولاية الاستيفاء منه إلا بيعا إلا إذا قال: أخذته رهنا بحقي أو قضاء به فلا يقطع لأنه مختلف فيه فقد ظن في موضعه. قوم سرقوا وفيهم صبي أو مجنون لا قطع عليهم وإن تولى ذلك الكبير لأنه فعل واحد لم يوجب القطع على البعض فلا يجب على الباقين للشبهة، وكذا شريك ذي الرحم المحرم. وقال أبو يوسف: ادرإ الحد عن الصبي والمحرم، واقطع الآخر اعتبارا لحالة الاجتماع بحالة الانفراد، إذ فعل كل واحد منهما معتبر بانفراده، وشريك الأخرس كشريك الصبي في الخلاف لأنه لا حد على الأخرس لاحتمال أنه لو نطق ادعى شبهة الشركة ونحوها. قال أبو حنيفة: لا يقطع الأعمى إذا سرق لجهله بمال غيره وحرز غيره.
(وتقطع يمين السارق من الزند وتحسم) أما القطع فللقراءة المشهورة، وأما اليمين فلقراءة ابن مسعود وعليه الإجماع. وأما من الزند لأن الآية مجملة، فإن اليد تتناول إلى الإبط وتتناول إلى الزند وإلى المرفق، وقد وردت السنة مفسرة لها بما ذكرنا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقطع يد السارق من الزند. وأما الحسم فلقوله عليه الصلاة والسلام: (فاقطعوه واحسموه) ولأنه إذا لم تحسم يؤدي إلى التلف، لأن الدم لا ينقطع إلا به، والحد زاجر غير متلف، ولهذا لا يقطع في الحر الشديد والبرد الشديد. (فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد لم يقطع ويحبس حتى يتوب) والأصل أن حد السرقة شرع زاجرا لا متلفا، لأن الحدود شرعت للزجر عن ارتكاب الكبائر لا متلفة للنفوس المحترمة، فكل حد يتضمن إتلاف النفس من كل وجه أو من وجه لم يشرع حدا، وكل قطع يؤدي إلى إتلاف جنس المنفعة كان إتلافا للنفس من وجه فلا يشرع، وقطع اليد اليسرى والرجل اليمنى يؤدي إلى إتلاف جنس منفعة البطش والمشي فلا يشرع حدا، وإليه الإشارة بقول علي رضي الله عنه: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها ورجلا يمشي عليها، وبهذا حاج بقية الصحابة فحجهم فانعقد إجماعا. وعن عمر رضي الله عنه أنه أتي برجل أقطع اليد والرجل وقد سرق يقال له (سدوم) فأراد أن يقطعه، فقال له علي رضي الله عنه: إنما عليه قطع يد ورجل، فحبسه عمر رضي الله عنه ولم يقطعه، ففتوى علي ورجوع عمر رضي الله عنهما إليه من غير نكير ولا مخالفة من غيرهما دليل على إجماعهم عليه، أو أنه كان شريعة عرفوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف القصاص لأنه حق العبد فيستوفي جبرا لحقه. وما روي من الحديث في قطع أربعة السارق طعن فيه الطحاوي، أو نقول: لو صح لاحتج به الصحابة على علي رضي الله عنه ولرجع إليهم، وحيث حجهم ورجعوا إلى قوله دل على عدم صحته، فإن كانت يده اليمنى ذاهبة أو مقطوعة تقطع رجله اليسرى من المفصل، وإن كانت رجله اليسرى مقطوعة فلا قطع عليه لما فيه من الاستهلاك على ما بينا، ويضمن السرقة ويحبس حتى يتوب. قال: (فإن كان أقطع اليد اليسرى أو أشلّها أو إبهامها أو أصبعين سواها، وفي رواية ثلاث أصابع أو أقطع الرجل اليمنى أو أشلها أو بها عرج يمنع المشي عليها لم تقطع يده اليمنى ولا رجله اليسرى) وجملته أنه متى كان بحال لو قطعت يده اليمنى لا ينتفع بيده اليسرى، أو لا ينتفع برجله اليمنى لآفة كانت قبل القطع لا يقطع، لأن فيه تفويت جنس المنفعة بطشا أو مشيا وقوام اليد بالإبهام، فعدمها أو شللها كشلل جميع اليد، ولو كانت أصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء قطع، لأن فوات الواحدة لا يوجب نقصا ظاهرا في البطش، بخلاف الأصبعين لأنهما كالإبهام في البطش؛ ولو كانت اليد اليمنى شلاء أو ناقصة الأصابع يقطع في ظاهر الرواية، لأن المستحق بالنص قطع يده اليمنى دون اليسرى واستيفاء الناقص عند تعذر استيفاء الكامل جائز. وعن أبي يوسف: لا يقطع لأن مطلق الاسم يتناول الكامل ذكره في اختلاف زفر ويعقوب، ولو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع، فإن كان يستطيع المشي عليها قطعت يده اليمنى، وإلا فلا لما بينا؛ فإن سرق في الثالثة بعد ما قطعت يده ورجله حبس وضرب، لأن القطع لما سقط لم يبق إلا الزجر بالحبس والضرب لحديث عمر رضي الله عنه. قال: (وإن اشترى السارق المسروق أو وهب له أو ادّعاه لم يقطع) وقال زفر: إن كان بعد القضاء بالقطع قطع، وهو رواية عن أبي يوسف لأن السرقة قد تمت انعقادا وظهورا، وبالشراء والهبة لم يتبين قيام الملك وقت السرقة فلم تثبت الشبهة. ولنا أن الإمضاء في الحدود من باب القضاء للاستغناء عن القضاء بالاستيفاء، لأن القضاء للظهور وهو حق الله تعالى وهو ظاهر عنده، وإذا ثبت ذلك يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء فصار كما إذا ملكها قبل القضاء، ولأن الشبهة دارئة وأنها تتحقق بمجرد الدعوى لاحتمال صدقه. قال: (وإذا قطع والعين قائمة في يده ردها) لأنه ملكه، قال عليه الصلاة والسلام: (من وجد عين ماله فهو أحق به) والنبي عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان وردّ الرداء على صفوان، وكذلك إن كان ملكها غيره بأي طريق كان وهي قائمة بعينها لما قلنا: (وإن كانت هالكة لم يضمنها) لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه) وفي رواية ابن عوف عنه عليه الصلاة والسلام: (إذا قطع السارق فلا غرم عليه) ولأنه لو ضمنها لملكها من وقت الأخذ على ما عرف في الغصب فيكون القطع واقعا على أخذ ملكه ولا يجوز. وروى ابن سماعة عن محمد إني آمره برد قيمة ما استهلكه، وإن كنت لا أقضي عليه بذلك لأن القضاء يؤدي إلى إيجاب ما ينافي القطع لكن يفتي بالرد لأنه أتلف مالا محظورا بغير حق، وكذلك قطاع الطريق، فإن سقط القطع لشبهة ضمن، لأن أخذ مال الغير موجب للضمان وإنما سقط بالقطع على ما بينا، فإذا سقط القطع عاد الضمان بحاله. قال: (ومن قطع في سرقة ثم سرقها وهي بحالها لم يقطع) والقياس أن يقطع وهو رواية الحسن عن أبي يوسف لأنه إذا ردها صارت كعين أخرى في حق الضمان، فكذا في حق القطع؛ وجه الاستحسان أنها صارت غير متقومة في حقه، ألا ترى أنه لو استهلكها لا ضمان عليه، وما ليس بمتقوّم في حقه لا قطع عليه في سرقته وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة فشبهة السقوط باقية نظرا إلى اتحاد الملك والمحل. قال: (وإن تغير حالها كما إذا كان غزلا فنسج قطع) لتبدل العين اسما وصورة ومعنى حتى يملكه الغاصب به، وإذا تبدلت العين انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع فيه فيقطع؛ ولو سرق عينا فقطع فيها، ثم إن المسروق منه باعها من آخر ثم اشتراها ثم عاد وسرقها، قال مشايخ العراق لا يقطع لأن العين قائمة حقيقة لكن تبدل سبب الملك فيه فكان شهبة سقوط العصمة قائمة. وقال مشايخ خراسان: يقطع لأن العصمة سقطت في حق الأول ضرورة وجوب القطع، وهذه الضرورة انعدمت في حق المشتري، فقد وجد دليل العصمة وفقد دليل سقوطها فبقيت معصومة، فإذا عادت إلى البائع عادت معصومة متقوّمة كما كانت؛ وكذلك لو سرق قطنا فقطع فيه ثم غزل فسرقه قطع لما بينا؛ ولو سرق ثوب خز أو صوف فقطع فيه ثم نقض الثوب فسرقه ثانيا لم يقطع، لأن العين والملك لم يتبدل، وحضور المالك أو من يقوم مقامه شرط لصحة القضاء بالسرقة، لأن القضاء بالسرقة قضاء بالملك له. ولو غاب بعد القضاء قبل الاستيفاء لا يقطع لأن للاستيفاء شبها بالقضاء ولهذا رجوع الشهود وجرحهم بعد القضاء يمنع الاستيفاء، وغيبة الشهود وموتهم بعد القضاء لا يمنع الإمضاء في الحقوق كلها، لأن الحدود لا تدرأ بشبهة تتوهم مثل رجوع الشهود وجرحهم، لأن هذا التوهم لا ينقطع، فلو اعتبر لم يقم حد أبدا، ولو فسقوا أو عموا أو جنوا أو ارتدوا بعد القضاء يمنع الإمضاء في الحدود والقصاص دون الأموال، لأن القضاء إنما يظهر ولاية الاستيفاء للقاضي، لأن الحق ظاهر لصاحبه وهو الله تعالى، والحاجة إلى القضاء لظهور ولاية الاستيفاء، فكان الاستيفاء قضاء معنى، فكانت هذه العوارض حادثة قبل القضاء معنى بخلاف الأموال، لأن الحق إذا ظهر بالقضاء فولاية الاستيفاء ثبتت لصاحب الحق بالملك السابق لا بالقضاء؛ ولو سرقت من أجنبي أو سرق من أجنبية ثم تزوجا سقط القطع، لأن اعتراض الزوجية بعد القضاء يمنع الاستيفاء فيمنع القضاء أولى، ويقطع السارق بخصومة المودع والمستعير والغاصب والمضارب والمستأجر والمرتهن والأب والوصي. اعلم أن اليد ضربان: صحيحة، وغير صحيحة. فالسرقة من اليد الصحيحة يتعلق بها القطع، يد مالك كانت أو غير مالك، ومن غير الصحيحة لا يتعلق بها القطع؛ واليد الصحيحة يد ملك ويد أمانة ويد ضمان، والتي ليست بصحيحة يد السارق، أما السرقة من يد المالك فلما مر، وأما من يد الأمانة فإنها كيد المالك، لأن يد المودع يد مودعة ويد الضمان يد صحيحة كالمرتهن والقابض على سوم الشراء والغاصب لأن لهم ولاية الأخذ والأخذ دفعا للضمان عنهم فأشبهت يد المالك، ويقطع بخصومة المالك أيضا إذا سرق من هؤلاء إلا الراهن، لأنه لا حق له في قبض العين مع قيام الرهن، فإذا قضي الدين بطل الرهن فكان له ولاية الخصومة فيقطع بخصومته أيضا. وقال زفر: لا يقطع إلا بخصومة المالك والأب والوصي، لأن ولاية الخصومة للباقين إنما تثبت ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع. ولنا أن السرقة تثبت لحجة شرعية عقيب خصومة معتبرة لحاجتهم إلى الاسترداد فيستوفي القطع كالسرقة من المالك فلا تعتبر شبهة موهومة الاعتراض، واليد التي ليست يد السارق فلا قطع على من سرق منه لأنها ليست يد ملك ولا أمانة ولا ضمان فصار كأنه أخذه من الطريق أو أخذ المال الضائع، ولا يقطع بخصومة المالك أيضا، لأن السارق الثاني لم يزل عن المالك يدا صحيحة فصار كأخذه من الطريق. وكل ما يحدثه السارق في العين المسروقة على وجهين، إما أن يكون نقصا أو زيادة، فإن كان نقصا قطع ولا ضمان عليه وردت العين، لأن نقصان العين ليس بأكثر من هلاكها؛ وإن كانت زيادة فإما أن يسقط حق المالك عن العين كقطع الثوب وخياطته قباء أو جبة أو نحو ذلك قطع السارق ولا سبيل للمالك على العين ولا ضمان، لأن العين زالت عن ملك المسروق منه فتعذر الضمان بالقطع فصار كالاستهلاك، وإن كانت الزيادة لا تقطع حق المسروق منه كالصبغ. قال أبو حنيفة: يقطع السارق ولا سبيل للمسروق منه على العين، وقالا: يأخذه ويعطي ما زاد على الصبغ فيه، لأن المالك مخيّر بين تضمين الثوب وبين أخذه وضمان الزيادة، وقد تعذر التضمين بالقطع فتعين أخذه، وضمان الزيادة لأن المخير بين الشيئين إذا تعذر أحدهما تعين الآخر. ولأبي حنيفة أنه لا يجوز تضمين الثوب بعد القطع لما مر. ولو رد الثوب يصير السارق شريكا فيه بسبب متقدم على القطع، وسرقة العين المشتركة تسقط القطع ابتداء، فإذا وجد القطع لم يجز إثبات ما ينافيه، وليس كذلك إذا صبغه بعد القطع لأن الشركة بعد القطع لا تسقط القطع كما لو باع المالك بعض الثوب من السارق؛ ولو سرق ذهبا أو فضة فضربه دراهم أو دنانير قطع ورد الدراهم والدنانير عند أبي حنيفة. وقالا: لا سبيل للمسروق منه عليها، وهذه صنعة متقومة عندهما خلافا له، وقد عرف في الغصب، وفي الحديد والرصاص والصفر إن جعله أواني، فإن كان يباع عددا فهو للسارق بالإجماع، وإن كان يباع وزنا فهو على اختلافهم في الذهب والفضة وبهذا الأصل يعرف جميع مسائل ما يحدثه السارق في المسروق لمن يتأمله.
(إذا خرج جماعة لقطع الطريق أو واحد فأخذوا قبل ذلك حبسهم الإمام حتى يتوبوا، وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي وأصاب كل واحد منهم نصاب السرقة قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم ولا يلتفت إلى عفو الأولياء) لأنه إنما يقتلهم حدا حقا لله تعالى، ولا يصح العفو عن حقوق الله تعالى (وإن قتلوا وأخذوا المال قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم، أو قتلهم) يعني من غير قطع (أو صلبهم) من غير قطع. والأصل في ذلك قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ([المائدة: 64] قيل معناه: الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله لاستحالة محاربة الله تعالى بطريق حذف المضاف. وقيل المراد أنهم في حكم المحاربين لأنهم لما امتنعوا على نائب الله الإمام وجماعة المسلمين وتظاهروا بمخالفة أوامر الله تعالى كانوا في حكم المحاربين، وهذا توسع في الكلام ومجاز كقوله تعالى: {ومن يشاقّ الله} [الحشر: 4]. والمحاربون المذكورون في الآية هم القوم يجتمعون لهم منعة بأنفسهم يحمي بعضهم بعضا، ويتناصرون على ما قصدوا إليه ويتعاضدون عليه، وسواء كان امتناعهم بحديد أو خشب أو حجارة، ويكون قطعهم على المسافرين في دار الإسلام من المسلمين وأهل الذمة دون غيرهم، هذا عند أبي حنيفة وأصحابه. قال أصحابنا: الآية مرتبة على ما ذكرنا من الأحوال الأربعة، وروي ذلك عن علي وابن عباس والنخعي وابن جبير رضي الله عنهم، ولأن الجنايات تتفاوت على الأحوال، فاللائق تغلظ الحكم بتغلظها، فإذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا حبسوا، وهو المراد من النفي من الأرض. وقيل هو أن الإمام لا يزال يطلبهم حتى يخرجوا من دار الإسلام، وإن أخذوا مالا على الوصف المذكور قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى، ويشترط أن يكون المال معصوما عصمة مؤبدة، فلهذا قال مال مسلم أو ذمي، حتى لو قطع على مستأمن لا يقطع، لأن خطره مؤقت فلا يجب فيه حد كالسرقة الصغرى، ولا بد أن يصيب كل واحد نصاب لما مر في السرقة، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم حدا على ما بينا، وإن قتلوا وأخذوا المال فالإمام فيهم بالخيار على الوجه الذي بينا، وهذا لأن أخذ المال موجب للقطع في السرقة الصغرى، وتغلظت الكبرى بقطع الطريق والقتل موجب للقتل في غير قطع الطريق، ويغلظ هنا بأن يقتل ولا يلتفت إلى عفو الولي وصلحه، وهو معنى قولنا يقتلهم حدا، فإذا جمع بين القتل والسرقة يجمع عليه بين موجبهما، وهكذا نزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم، وتكون (أو) في الآية بمعنى الواو. وقال أبو يوسف: لا يترك الصلب لأنه منصوص عليه كالقتل والقطع، ولأنه أبلغ في التشهير وهو المقصود ليعتبر به، والجواب أن التشهير حصل بالقتل والصلب مبالغة فيخير فيه. وقال محمد: يقتل أو يصلب ولا يقطع، لأن النفس وما دونها إذا اجتمعا لحق الله تعالى دخل ما دون النفس في النفس كالمحصن إذا زنا وسرق. قلنا هذا حد واحد وجب لمعنى واحد، وهو إخافة الطريق على وجه الكمال بالقتل وأخذ المال، والحد الواحد لا يدخل بعضه بعضا، ألا ترى أن قطع اليد والرجل حد واحد في أخذ المال في الكبرى حدان في الصغرى، والتداخل في الحدود لا في حد واحد. واختلفوا في صلبه. قال الطحاوي: يقتل ثم يصلب. وقال الكرخي: يصلب حيا. (ويطعن تحت ثندوته اليسرى حتى يموت) لأنه أبلغ في زجر غيره. قال: (ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام) ثم يخلي بينه وبين أهله ليدفنوه لأنه يتغير بعد ذلك فيستضر الناس برائحته، ولأن المقصود يحصل بذلك وهو الزجر والاشتهار. وعن أبي يوسف يترك على الخشبة حتى يتقطع فيسقط ليعتبر به غيره، والحكم في قطع اليد والرجل ما بيناه في الصغرى من شلل أيديهم وذهاب بعض الأعضاء لما ذكرنا. قال: (وإن باشر القتل واحد منهم أجري الحد على الكل) لأن المحاربة تتحقق بالكل، لأنهم إنما أقدموا على ذلك اعتمادا عليهم حتى لو غلبوا أو هزموا انحازوا إليهم فكانوا عونا لهم، ولهذا المعنى كان الردء في الغنيمة كالمقاتل، ولأن الردء ساع في الأرض فسادا، لأنه إنما وقف ليقتل إذا قتل فيقتل كأهل البغي. قال: (وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليهم صار القتل للأولياء) معناه: أنه سقط الحد، فلو عفا الولي أو صالح سقط القصاص، وهذا لأن الجناية واحدة قامت بالكل، فإذا لم يكن فعل بعضهم موجبا صار فعل الباقين بعض العلة فلا يترتب عليه الحكم. أما الصبي والمجنون فلما مر في السرقة. وأما ذو الرحم المحرم فلأن القافلة كالحرز، فقد حصل الخلل في الحرز في حقهم فيسقط الحد فيصير القتل إلى الأولياء، ولهذا لو قطع بعض القافلة على البعض لا يجب الحد لأن الحرز واحد فصارت كدار واحدة، ولو كان في المقطوع عليهم مستأمن قطعوا، لأن الامتناع في حقه لخلل في العصمة وذلك يخصه، وخلل الحرز يعم الكل، ثم شرائط قطع الطريق في ظاهر الرواية أن يكون قوم لهم منعة على ما تقدم ينقطع بهم الطريق، ولا يكون في مصر ولا بين قريتين ولا بين مدينتين، ويكون بينهم وبين المصر مسيرة السفر، لأن قطع الطريق بانقطاع المارة والسابلة، ولا يمتنعون عن المشي في هذه المواضع فيلحقهم الغوث ساعة بعد ساعة من المسلمين أو من جهة الإمام. وروي عن أبي يوسف: لو كان في المصر ليلا، أو بينهم وبين المصر أقل من مسيرة سفر فهم قطاع الطريق وعليه الفتوى نظرا لمصلحة الناس بدفع شر المتغلبة المفسدين، وأبو حنيفة أجاب على ما شاهد في زمانه، فإن أهل الأمصار كانوا يحملون السلاح فلا يتمكن قاطع الطريق من مغالبتهم؛ فأما إذا تركوا هذه العادة وأمكن أن يتغلب عليهم قطاع الطريق أجرى عليهم الحد، ولهذا قال: لا يثبت قطع الطريق بين الحيرة والكوفة، لأن الغوث في زمانه كان يلحق ذلك الموضع لاتصال المصرين، أما الآن فهي برية يجري فيها قطع الطريق ويستوي فيه الامتناع بالخشب والسلاح، لأن المعنى يوجد بهما، ولا بد أن يكون في دار الإسلام لأن الحد إذا وجد سببه في دار الحرب لا يستوفي في دار الإسلام لما مر في الحدود؛ وإذا تاب قطاع الطريق قبل أن يؤخذوا سقط عنهم الحد وبقي حق العباد في المال والقصاص، لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة: 34] فيقتضي خروجه عن الجملة عملا بالاستثناء، وفي السرقة إذا تاب ولم يرد المال يقطع لأن قوله تعالى: {فمن تاب من بعد ظلمه} [المائدة: 39] ليس استثناء، فلا يقتضي خروج التائب من الجملة السابقة، وهو كلام مبتدأ يستغني عن غيره فيحمل على الابتداء لأنه أولى، أما الاستثناء يفتقر في صحته إلى ما قبله فافترقا.
|